هوية بصرية جديدة تعانق التاريخ وتستشرف المستقبل

في ليلةٍ حملت بين طياتها عبق التاريخ ونسمات التغيير، وقفت سوريا على أعتاب مرحلة جديدة تُعلن من خلالها ميلاد هويتها البصرية المُجدَّدة، في حفل مهيب احتضنه قصر الشعب بدمشق مساء الثالث من تموز ٢٠٢٥، بحضور الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، إلى جانب كوكبة من الوزراء والمسؤولين، وسط أجواء احتفالية امتدت إلى أبرز المحافظات السورية
جاء الإعلان عن الهوية البصرية الجديدة تتويجًا لمسيرة إعادة بناء الصورة الوطنية، وتعزيزًا للوحدة السورية بعد تحولات جذرية شهدتها البلاد، لترسم ملامح مرحلةٍ تستلهم الماضي بتراثه العريق، وتستشرف المستقبل بآماله الواعدة
العقاب الذهبي: امتداد التاريخ وإشراقة التجديد
في قلب الهوية الجديدة، يتجلى العقاب الذهبي السوري، رمزًا يحمل في جناحيه تراثًا يمتد من فتوحات خالد بن الوليد إلى تأسيس الجمهورية العربية السورية عام ١٩٤٥، حين صاغ الفنان خالد العسلي شعار الدولة بخطوطٍ حملت روح الأمة
لكن العقاب اليوم لم يعد كما كان؛ فقد تحرر من قيود الماضي، وأضفى عليه الفنانون المعاصرون دلالات جديدة تعكس تحولات العصر. فبينما ظل العقاب رمزًا للدولة، فقد تخلّى عن هيئته القتالية التقليدية، ليرتدي حلّةً تجمع بين القوة والانفتاح
النجوم الثلاث، التي تعلو رأس العقاب، لم تعد محصورةً في إطارٍ جامد، بل تحررت لترمز إلى الشعب السوري الذي كسر قيود الصهر القسري مع الدولة، وأصبح شريكًا فاعلًا في صياغة مصيره. هذه النجوم، التي تختزل العلم شكلاً والوطن مضمونًا، باتت تحيط بالعقاب كحارسةٍ للدولة الحديثة، دولةٍ تذود عن شعبها كما يحميها من كل خطر
ريش الذيل والأجنحة: جغرافيا الوحدة وسياسة التوازن
ينسدل ذيل العقاب بخمس ريشات، كل منها يمثل منطقةً من مناطق سوريا الجغرافية: الشمال، الشرق، الغرب، الجنوب، والوسط. هذا التوزيع ليس مجرد تفصيل جمالي، بل هو تأكيدٌ على وحدة الأرض السورية، ورفضٌ لأي محاولة للتجزئة أو التهميش
أما الأجنحة، فلم تُصمم بهيئة الهجوم أو الدفاع، بل جاءت في حالة اتزان، يحمل كل منها سبع ريشات، ليصل المجموع إلى أربع عشرة ريشةً ترمز إلى المحافظات السورية بأكملها. هذا التناظر البصري ليس عبثيًا، بل هو عقدٌ سياسي مرئي يربط بين وحدة الأرض ووحدة القرار، ويذكّر بأن استقرار الدولة مرهونٌ بتوازن أجزائها كافة
خمس رسائل في قلب الشعار
لا تقف دلالات الشعار عند حدود الجماليات، بل تمتد لتحمل رسائل عميقة تُلخص رؤية سوريا الجديدة
- الاستمرارية التاريخية: فالعقاب ليس قطيعةً مع الماضي، بل هو امتدادٌ لشعار ١٩٤٥، وتأكيدٌ على أصالة الهوية السورية عبر العصور
- تمثيل الدولة الحديثة: إنه تجسيدٌ لسوريا الجديدة، دولةٍ تنبثق من إرادة شعبها، وتضع مواطنيها في صلب اهتمامها
- تحرر الشعب وتمكينه: تحرر النجوم يعكس تحرر السوريين من عقدة الخوف، وانتقالهم من موقع المتلقي إلى موقع الفاعل
- وحدة الأرض والسكان: الذيل المكوّن من خمس ريشات يؤكد أن الجغرافيا السورية كتلةٌ واحدة لا تقبل التقسيم
- عقد وطني جديد: يُحدد الشعار علاقةً متجددة بين الدولة والمواطن، قائمة على الشراكة لا التبعية
كلمة الرئيس: “سوريا لا تقبل التجزئة“
في كلمته خلال الحفل، أكد الرئيس أحمد الشرع أن الهوية الجديدة “تعبر عن سوريا التي لا تقبل التجزئة ولا التقسيم، سوريا الواحدة الموحدة”، مشيرًا إلى أن التنوع الثقافي والعرقي “عامل إغناء وإثراء، لا فرقة أو تنازع”
وأضاف أن هذه الهوية “ترمم كرامة الإنسان السوري، وتعيد له ثقته بوطنه”، معتبرًا إياها خطوةً نحو استعادة مكانة سوريا الطبيعية في المحيطين العربي والدولي
احتفالية تمتد من دمشق إلى المحافظات
لم يكن الحفل مناسبةً رسميةً جافة، بل تحول إلى مهرجانٍ شعبيٍّ امتد من ساحة الجندي المجهول في العاصمة دمشق، حيث عُرضت أعمالٌ فنيةٌ تجمع بين الأصالة والمعاصرة بتقنيات بصرية متطورة، إلى الساحات العامة في مختلف المحافظات، حيث احتفت الجماهير بالشعار الجديد كرمزٍ لوحدتهم وانتصارهم على محاولات التشظي
إعادة بناء الهوية: عملية معقدة بمعايير عالمية
وراء هذا الإنجاز، تقف سنوات من العمل الدؤوب، كما أوضح وسيم قدورة، رئيس مجلس إدارة مشروع إعادة بناء الهوية البصرية لسوريا، الذي أكد أن العملية خضعت لدراساتٍ معمقةٍ شملت التاريخ والثقافة والسياسة، فضلًا عن تحليل الرموز الوطنية والشعبية التي تشكّلت على مدى عقود
فإعادة بناء هوية دولةٍ ليست كإعادة تصميم شعار شركة؛ فهي مسؤوليةٌ تحمل في طياتها حساسيةً بالغة، إذ تتعلق بوجدان شعبٍ عانى سنواتٍ من الحرب والتمزق، وها هو اليوم يعيد تشكيل هويته بيديه، ليعلن للعالم أن سوريا باقية، وأن شعبها قادرٌ على صنع مستقبله بكل إرادةٍ وكبرياء
شعارٌ يحمل روح الأمة
الهوية البصرية الجديدة ليست مجرد رسمة أو ألوان، بل هي بيانٌ بصريٌّ يختزل روح سوريا: أرضًا توحدت تحت جناح عقابها، وشعبًا تحرر ليحلق بنجومه في فضاء الحرية. إنها هوية المرحلة الانتقالية بامتياز، مرحلةٍ ترفض فيها سوريا أن تكون ضحيةً للماضي أو رهينةً للصراعات، وتختار بدلًا من ذلك أن تكون دولةً حديثة، قويةً بوحدتها، عظيمةً بتنوعها، كبيرةً بإنسانها
اليوم، يحمل العقاب الذهبي رسالةً إلى العالم: سوريا لم تمت، بل عادت أقوى مما كانت، وبكل ريشتين في جناحيها، تُعلن أنها مستعدةٌ للتحليق من جديد
بقلم: وليد حسين شهاب