بمناسبة زيارة الرئيس غزواني لولاته… “زنزانة الأب المؤسس” تروي وجع التاريخ وصمت الجدران/ صور

في قلب الصحراء الموريتانية، على بعد أكثر من 1300 كيلومتر شرق نواكشوط، تقف قلعة ولاته، أو كما كان يُطلق عليها قديماً “الخوبه”، شاهدة على فصلٍ مظلم من تاريخ البلاد. بين جدرانها السميكة، التي أكلتها الرياح وكسرتها الشمس، تختبئ ذكريات مؤلمة لزعماء وأبطال مرّوا من هنا ذات يوم، فتركوا في حجارتها صدى أنينٍ لم يخفت بعد.
تأسست هذه القلعة سنة 1915 على يد الاستعمار الفرنسي، بأمرٍ من القائد الفرنسي جان بلي، الذي كان يستجوب الناس لأسباب واهية، حتى ضجيج مواشيهم ليلاً كان يكفي لزجّهم في أقبية الخوف. بنى المستعمر القلعة لتخذ منها مقرا لحاميته في ولايته الحوض الشرقي قبل أن ينقلها للنعمة في عشرينيات القرن الماضي، لتتحول إلى حامية عسكرية للحرس الوطني بعد الاستقلال عام 1960، قبل أن تُستعمل سنة 1978 كسجنٍ سياسي على يد اللجنة الوطنية للإنقاذ الوطني بقيادة محمد المصطفى ولد محمد السالك، لإيداع كبار القادة وعلى رأسهم الأب المؤسس والرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الموريتانية المختار ولد داداه.
هنا، في هذا المكان النائي، الذي يختلط فيه الرمل بالذاكرة، قبع الرئيس المختار ولد داداه، بعد أن أطاحت به مجموعة من الضباط في أول انقلابٍ عسكري عرفته البلاد. نُقل الرجل بعد خمسة أيام من اعتقاله، من نواكشوط إلى العيون، ثم إلى النعمة، ومنها عبر صحراء قاسية إلى ولاته، حيث كان ينتظره مصير أشد قسوة من رمالها.
في مذكراته، كتب الأب المؤسس عن سجن ولاته واصفاً إياه بقوله:
“إنه خراب لا أبواب له ولا نوافذ، جدرانه متصدعة متهاوية ووسخة إلى أبعد الحدود. أما الأرضية فمشققة يكسوها الغبار والحصى، والسقف مغطى بصفائح قديمة من الزنك تتراقص تحت هبوب الرياح، محدثة ضجيجاً يصم الآذان. في الليل تعصف الرياح بالرمال حتى تكاد تدفن النائمين أحياء”.
لقد وصفه ولد داداه السجن بأنه أسوأ سجن عرفته موريتانيا، حتى إنه استيقظ يوماً وقد دفنته الرمال حتى نصف جسده، في مشهدٍ يلخّص حجم المعاناة في ذلك المعتقل المعزول.
ورغم مرور الزمن، لا تزال زنزانة الزعماء — كما يسميها بعض الزائرين — محافظة على هيئتها الأصلية، عصيّة على محاولات النسيان. جدرانها المتهالكة، وأسقفها المتداعية، والطيور التي ما زالت تعشش بين شقوقها، جميعها تحكي قصة وجعٍ وكرامةٍ ودهورٍ من الصمت.
كاميرا نوافذ تجولت بين أرجاء القلعة، حيث ما يزال كل شيء كما وصفه الرئيس الراحل في مذكراته؛ الجدار الذي فُصلت به الزنازين قائم كما كان، والزوايا التي سكنتْها الطيور منذ عقود ما زالت موئلاً لها، وحدها صالة الاستقبال تغيّرت قليلاً، وأعيد ترميم بعض المرافق لاستقبال ضيوف جدد مرّوا على هذا المكان القاسي، لكن الروح ظلت كما هي: روح السجن والمنفى والذاكرة الحيّة.
“زنزانة الزعماء” ليست مجرد غرفة من حجر، بل شاهد على حقبة من تقلبات السلطة، وحكم العسكر، وتاريخ الانقلابات التي رسمت ملامح موريتانيا الحديثة، هي مرآة لسنواتٍ كانت فيها الحرية تُختزل بين جدران قلعة، ويُسجن فيها الأمل كما سُجن مؤسس الدولة.
تحكي “زنزانة الأب المؤسس” حكاياتٍ تفيض بالألم والهيبة، قصص معتقلين سياسيين وزعماءٍ مرّوا من هنا، وتركوا في جدرانها بصماتٍ من وجع التاريخ. بين حجارتها الصامتة يختبئ صوت وطنٍ عرف الانقلابات باكراً، وتوالى عليه حكم العسكر منذ فجر تأسيسه.
حين تزوز “الزنزانة المختارة” لا تستقبلك الجدران بصمتها فحسب، بل تهمس إليك بما خطّه الزائرون بأيديهم، كلمات ترحمٍ وتقديرٍ للأب المؤسس المختار ولد داداه: “رحم الله مؤسس الدولة الموريتانية”، “رحم الله أبا الأمة”، و”رحم الله الرئيس المؤسس”…جاءوا إلى المدينة التاريخية لا ليروا آثارها فقط، بل ليقفوا بخشوعٍ أمام غرفةٍ ضيقة احتضنت رجلاً رأوه أكبر من أن يُسجن، وأسمى من أن يُقيد في ظلمةٍ كهذه، فخلّدوا على جدران زنزانته دعاءً صادقاً يروي للأجيال أن الحرية وُلدت هنا، بين أنين الحجر ونبض الذاكرة.
خمسة وأربعون عاماً مضت على خروج الرئيس المختار ولد داداه من زنزانته في ولاته، ومع ذلك لا يزال المكان ينبض بالحكاية، الزنزانة التي حملت اسمه ما زالت تحتفظ بشكلها القديم، متشبثة بعلم “الاستقلال”، وكأنها ترفض أن تنسى، هناك في أعالي هضبة ولاته الشرقية، يتكئ السجن على ذاكرة وطنٍ بأكمله، ينتظر من يقرأ صمته، ويستمع إلى جدرانه التي لم تتوقف يوماً عن الحكي.
عبد المجيد إبراهيم



