الأخبار

أطروحة دكتوراه للإعلامي أحمد فال ولد الدين تبحث تمثلات الجاحظ للآخر بين الانفتاح والتعالي

وناقدا حيَّ التعابير، مفتوحَ العينين على الحياة النابضة. فهو لا يكاد يدع شيئا من صور الحياة المحكية أو الواقعية يمر أمامه دون تقليبه وتحليله ورسمه وتفسيره في سياقه التاريخي والثقافي، كما تقول الدراسة. وهذا العامل يجعل التنقير في مؤلفاته في هذا الصدد أمرا شائقا”.

الحربائية النصية عند الجاحظ”
تبحث الأطروحة إشكالا عميقا، مثل الثغرة مركزية في كتابات الجاحظ، يحاول الباحث وضع اليد عليه، وتفسيره، دون الخوض في مزالق التأويل، هذا “الإشكال هو التناقض بين إيمانه -المتكئ على فكره الإسلامي والاعتزالي- بتساوي البشر جينيا وحقوقيا، وتعاليه على الآخر؛ أقواماً وطبقاتٍ واقعيا وتنظيريا؛ فالدارس لنصوصه يلاحظ أنه كاتب يتمتع بأفق إنساني مفتوح، مغروسٍ في سورة آية الحجرات المساوية بين البشر، لكنه يكتب بقلم مُنَمِّطٍ اختزالي في تعاطيه مع الأقوام والأديان والبلدان”.

هذه “الحربائية النصية عند الجاحظ” يؤكد ولد الدين بأن باحثا مكينا في الدراسات الجاحظية هو عبد الفتاح كليطو  اشتكى منها قبله حين قال إن”مؤلفاتُ الجاحظ مُحيرة لأنها أساسا متناقضة”.

ويعيد ولد الدين هذا الإشكال العميق في كتابات الجاحظ إلى “أنه كان مثقفا إمبراطوريا محكوما بشروط الزمان والمكان. ولذلك ظل طيلة كتاباته ممزقا ما بين الانفتاح الإنساني والتعالي الإمبراطوري كما حاولنا البرهنة عليه في  الدراسة”.
وتتناول الأطروحة موضوعها في أدبعة أبواب، هي: “الجاحظ: في قلب المصهرة الثقافية الإسلامية”ويرسم الباب أثر ذلك المهاد الثقافي في تكوين مزاجه السردي، ومواقفه، وتأملاته حول الأمم والأقوام والأديان، ويهتم الباب بمميزات الجاحظ باعتباره كاتبا من صُنّاع السرديات، متوقفا عند محورية عصر التدوين، شارحا وعي أبي عثمان بسلطان اللغة وخطر التصوير والتمثيل.
أما الباب الثاني فكان بعنوان: “الآخر القومي: الأمم بين الذكر والنسيان”.
ويتوقف عند تقسيمات الجاحظ للأمم الإنسانية إلى أمم مذكورة وأخرى همجية منسية. ويقصد أبو عثمان بالأمم المذكورة تلك الأمم التي كانت لها منجزات معرفية وحضارية تميزها عن غيرها. أما الأمم التي وصفها بالهمجية فيراها أمما لم تتميز عبر التاريخ بأي مساهمات حضارية في التاريخ البشري.
ويحمل الباث الثالث عنوان: “الآخر الديني: التدين خارج سلطان العقل” ويتأسس على فكرة مركزية عند الجاحظ ترى أن العقل إذا دخل باب الدين خبا وتحيّر مهما كان أداؤه الباهر في أمور الدنيا. ويرصد الباب تصوير الجاحظ لأصحاب الملل والنحل من يهود ونصارى ومجوس وزنادقة ومانوية، محللا طبيعة النظرة لهم.

وأما الباب الرابع فكان تحت عنوان: “الآخر الجغرافي.. العقل الإنساني منتوجا بيئيا” وينصرف الباب لنقاش السرديات السائدة لدى الجاحظ وغيره من أدباء المسلمين وجغرافييهم عن البلدان القريبة والبعيدة، وآثار البيئة في تحديد أمزجة الأمم وعقولها وبلاءاتها الحضارية. ويناقش تأثر المسلمين بنظرية الأقاليم السبعة اليونانية، وتبني الجاحظ لها واقعا، وهي النظرية القاضية بوجود مناطق مركزية وسط الأرض، وانعكاس ذلك على التفاوت بين عقول البشر تبعا لموقعهم من الأرض. ويشتبك الفصل مع انشطار الجاحظ بين تبني النظرية وإطلاقاته العامة المتحررة منها أحيانا، مبينا المأزق المنهجي الذي يقع فيه حين يتبنى تلك الجبرية البيئية وهو المتكلم المعتزلي المحكوم بنظريات العدل والتوحيد.

ويخلص الباحث في نهاية االأطروحة، بعد نقاش الإشكال، واستعراض جوانب فلسفة الجاحظ ونظرته للآخر، إلى أن الجاحظ كان سليل سياقين؛ سياقٍ نظري مُعلٍ من قيمة الإنسان ومساو بين أفراده، وهو سياق متكئ على الفلسفة الإسلامية والاعتزالية خاصة. وسياقٍ علمي يوناني وإمبراطوري إسلامي مفرقٍ بين الناس على أسس الدين والقومية والموقع. لكن جماع الخلاصات الفكرية له -وإن ناقضها واقعا أحيانا- كانت أميل لفلسفته التوحيدية المتمحورة حول حرية الإنسان وكرامته -دون حدودٍ من عرق، أو سدودٍ من بيئة- ليكون الإنسان أهلا للحساب الأخروي التام العادل.

“فكان الجاحظ -رغم قلمه الساخر ومزاجه المتأثر بالسياق العلمي اليوناني- أقرب إلى إنسان القرآن منه إلى إنسان اليونان. وكان الخيطُ الناظم لفكره محوريةَ الإنسان، ومركزيةَ حريته، وإرادتِه، بوصفه كائنا مكرما، لا حيوانا ماديا تستعبده البيئة كما صوره اليونان”.

ويعد ولد الدين واحدا من المتخصصين في تراث الجاحظ، وقد نشر قبل أعوام رواية “الحدقي” تناولت جوانب من حياة الجاحظ، وقد ترجمت إلى اللغة الإنجليزية، كما أدخلت في بعض البرامج الدراسية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى