جنود ورجال أعمال إسرائيليون وراء فوضى المساعدات: هكذا يُجوَّع الغزيون ويُقتَلون

في محاولة لتجميل صورة البرنامج الإسرائيلي لتوزيع المساعدات، الذي تحوّل فعليًا إلى كارثة إنسانية على سكان غزة، نظّمت السلطات الإسرائيلية رحلات ميدانية لصحافيين من عدة وسائل، بينها مجلة “إيكونوميست” وصحيفة “وول ستريت جورنال”. وفي أحدث تلك الزيارات، أعدّ مراسلا “وول ستريت جورنال” دوف ليبر وعنات بيليد تقريرًا كشفا فيه كيف أصبح هذا البرنامج، المصمّم أساسًا لتقييد دور الأمم المتحدة وحركة حماس، يجبر الفلسطينيين الجائعين على التزاحم في مواجهات مميتة.
في خان يونس، احتشد آلاف الفلسطينيين الجائعين صباح الثلاثاء الماضي خلف سياج من الأسلاك الشائكة يحيط بمركز تابع لـ”مؤسسة غزة الإنسانية”. وما إن فتحت البوابات حتى اندفع الحشد بقوة. حاول المتعهدون الأمنيون الأمريكيون ضبط الوضع، لكن العشرات اقتحموا الحواجز وسرقوا صناديق الطعام المخصصة للتوزيع، بينما ركض آخرون خلفهم. انطلق رجال على دراجات نارية بسرعة خاطفة لنقل أكبر كمية ممكنة من الطعام. وسط الفوضى، دوّت طلقات نارية لم يُعرف مصدرها تحديدًا. وخلال نحو 15 دقيقة، كانت جميع صناديق الطعام قد اختفت.
هذه المشاهد، التي وثّقها مراسلا الصحيفة، تتكرر في مراكز التوزيع التابعة لـ”مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من إسرائيل. فمنذ انطلاق البرنامج قبل شهرين، قُتل مئات الأشخاص وأُصيب مئات آخرون أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء من بين مواقع التوزيع الأربعة. ويقرّ الجيش الإسرائيلي باستخدامه الرصاص ضد الحشود إذا اقتربت من قواته بشكل كبير.
ومع ازدياد أعداد القتلى، أدانت الأمم المتحدة وعشرات المنظمات الإنسانية وأكثر من 20 حكومة هذا النهج الجديد، الذي جاء بديلًا لجهد أممي كان أكثر تنظيما واتساعا.
وقد يثير هذا الواقع تساؤلا: كيف يمكن أن يتحوّل توزيع الغذاء إلى مشاهد عنف؟ يكشف تقرير “وول ستريت جورنال” عن بعض أسباب الفشل الكارثي لهذا النظام.
أولى المشكلات تكمن في اعتماد “مؤسسة غزة الإنسانية” على الجيش الإسرائيلي القريب لتأمين المواقع وضمان سلامة الموظفين، وهو ما يدفع الحشود اليائسة أحيانا إلى الاقتراب من الجنود. بخلاف ذلك، كانت نقاط توزيع الغذاء التابعة للأمم المتحدة تُدار بعيدا عن أي وجود عسكري إسرائيلي مباشر.
أما المشكلة الثانية، فهي أن الطلب على الغذاء يفوق بكثير قدرة “مؤسسة غزة الإنسانية” الحالية، ما يولّد اكتظاظا هائلا وتدافعا بين آلاف الناس على حصص غذائية محدودة.
بل إن العنف المرتبط بالمساعدات لا يقتصر على مواقع التوزيع التابعة للمؤسسة؛ ففي يوم الأحد، قُتل وجُرح عشرات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات عبر الحدود إلى شمال غزة من إسرائيل، وفقا للسلطات الصحية المحلية. وأكد الجيش الإسرائيلي أن آلاف السكان تجمعوا شمال القطاع، وأنه أطلق “طلقات تحذيرية” لإبعاد من وصفهم بالتهديد. في المقابل، نفى الجيش الأرقام التي أعلنتها سلطات غزة.
وفي الأربعاء الماضي، قُتل ما لا يقل عن 20 شخصا في تدافع عند أحد المواقع، بحسب السلطات الصحية والمنظمة التي ذكرت أن متعهديها الأمنيين استخدموا رذاذ الفلفل لتفريق الناس.
يتحدث أحمد طارق الداودي، وهو أحد من حاولوا الحصول على الطعام في ذلك اليوم، قائلا: “لم أستطع التنفس من رائحة رذاذ الفلفل. لم أحصل على شيء وهربت. كان هناك الكثير من الأطفال والنساء وكبار السن. رأيت حوالي 15 جثة”.
ونقلت “وول ستريت جورنال” عن جنود إسرائيليين قولهم إنهم استخدموا البنادق والرشاشات وحتى المدفعية لإطلاق النار عندما كانت الحشود تنحرف عن الطرق المحددة المؤدية إلى مواقع المؤسسة أو تحاول اختصارها. وأوضح الجنود أن إطلاق النار يتم حول الحشود لإبعادهم، لكنه أحيانا يُوجَّه مباشرة إلى من يقترب كثيرا.
وقال أحد جنود الاحتياط إنّه شاهد زملاءه يطلقون النار على فلسطينيين يحملون أعلامًا بيضاء لأنهم خرجوا عن المسار المسموح منتصف يونيو/حزيران، وأضاف: “لدينا قاعدة غير مكتوبة: إذا اقتربوا كثيرا وشعرت بأن حياتك أو حياة فريقك مهددة، فلا تُخاطر”.
وأكّد متحدث باسم “مؤسسة غزة الإنسانية” أنها طلبت مرارا من الجيش الإسرائيلي تحسين أمن طرق الوصول إلى مواقعها، وأشار إلى أن الجيش اتخذ مؤخرا خطوات في هذا الاتجاه، منها إضافة لافتات وأسوار “لتقليل الاحتكاك مع السكان”.
في السابق، كانت الأمم المتحدة والجمعيات الخيرية تجمع الغذاء وتوزعه عبر نحو 400 موقع داخل المناطق السكنية في غزة. ولا تزال الأمم المتحدة تُدخل بعض شحنات الطعام، لكن بكميات أقل بكثير من السابق.
وكشفت الصحيفة أن خطة المساعدات الجديدة صُممت على يد مجموعة من نحو 12 جنديا احتياطيا ورجال أعمال إسرائيليين بدأوا اجتماعاتهم في ديسمبر/كانون الأول 2023 بهدف تهميش الأمم المتحدة. وبحسب ضابط عسكري كبير سابق ساعد في وضع الخطة، حصل البرنامج على الضوء الأخضر بعد تعيين إسرائيل كاتس وزيرًا للدفاع وانتخاب الرئيس ترامب في الولايات المتحدة.
وأظهرت وثائق اطّلعت عليها الصحيفة أن بعض الإسرائيليين حذّروا المسؤولين حينها من أن الخطة لا تتضمن مواقع كافية ولا مواقع مختارة بشكل صحيح، ما يزيد من احتمالية الاكتظاظ وأعمال العنف.
تأسست “مؤسسة غزة الإنسانية” التي تدير البرنامج رسميا في ولاية ديلاوير الأمريكية في فبراير/شباط الماضي، ويقودها اليوم جوني مور، رجل أعمال أمريكي وزعيم مسيحي إنجيلي ومستشار سابق لحملة ترامب. ولم يُكشف حتى الآن عن مصادر تمويل البرنامج، في وقتٍ رفضت فيه عدة دول ومنظمات إنسانية التعاون معه، ما قلّص بشكل كبير من موارد المساعدات الدولية.
وأُطلق البرنامج بعد أن منعت إسرائيل دخول شحنات الغذاء إلى غزة لمدة 11 أسبوعا، وهو حظر استنزف المخزونات وأثار تحذيرات واسعة من خطر المجاعة. اليوم، يواجه جميع سكان غزة نقصا حادا في الغذاء، إذ أفادت “الأونروا” بأن 10% من الأطفال الذين خضعوا للفحص يعانون من سوء تغذية، بينما أكد برنامج الغذاء العالمي أن عشرات الآلاف بحاجة إلى علاج نتيجة سوء التغذية.
والسبت الماضي، قُتل أكثر من 20 فلسطينيا أثناء توجههم إلى مواقع الإغاثة، وفقا للسلطات الصحية. واعترف الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار على بُعد نحو كيلومتر من الموقع.
ونقل الجنود للصحيفة أن أي شخص ينحرف عن الطريق المحدد إلى مواقع التوزيع – سواء بقصد اختصار الطريق أو نتيجة التشتت – يُعتبر تهديدًا ويُطلق عليه النار، وهو ما يضع الحشود أحيانا في خط النار خلف الجنود أنفسهم.
يقول أحد الجنود: “عندما يعبر بين 1500 إلى 2000 شخص مدخلا ضيقا وهم متوترون ويتدافعون، يتم إطلاق طلقات تحذيرية، وأحيانا تُطلق النار إذا تجاوزوا حدودا معينة. إنه وضع لا يمكن تحمّله”